فصل: ذكر ملك أتسز الرملة وبيت المقدس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ملك أتسز الرملة وبيت المقدس:

في هذه السنة قصد أتسز بن أوق الخوارزمي، وهو من أمراء السلطان ملكشاه، بلد الشام، فجمع الأتراك وسار إلى فلسطين، ففتح مدينة الرملة، وسار منها إلى البيت المقدس وحصره، وفيه عساكر المصريين، ففتحه، وملك ما يجاورهما من البلاد، ما عدا عسقلان، وقصد دمشق فحصرها، وتابع النهب لأعمالها حتى خربها، وقطع الميرة عنها، فضاق الأمر بالناس، فصبروا، ولم يمكنوه من ملك البلد، فعاد عنه، وأدام قصد أعماله وتخريبها حتى قلت الأقوات عندهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة ببغداد، وكان إمام الدنيا في زمانه، وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
وتوفي أيضاً فيها، في شهر رمضان، أبو يعلى محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري، فقيه الإمامية، وحسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن عبد الله المنيعي المخزومي من أهل مرو الروذ، كان كثير الصدقة والمعروف، والعبادة، والقنوع بالقليل من القوت، والإعراض عن زينة الدنيا وبهجتها، وكان السلاطين يزورونه ويتبركون به، وأكثر من بناء المساجد والخانقاهات والقناطر، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
وتوفيت أيضاً كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي التي تروي صحيح البخاري، توفيت بمكة، وإليها انتهى علو الإسناد للصحيح إلى أن جاء أبو الوقت. ثم دخلت:

.سنة أربع وستين وأربعمائة:

.ذكر ولاية سعد الدولة كوهرائين شحنكية بغداد:

في ربيع الأول من هذه السنة ورد إيتكين السليماني شحنة بغداد من عند السلطان إلى بغداد، فقصد دار الخلافة، وسأل العفو عنه، وأقام أياماً، فلم يجب إلى ذلك.
وكان سبب غضب الخليفة عليه أنه كان قد استخلف ابنه عند مسيره إلى السلطان، وجعله شحنة ببغداد، فقتل أحد المماليك الدارية، فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، ووقع الخطاب في عزله.
وكان نظام الملك يعنى بالسليماني، فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها، من ديوان الخلافة، بالتوقف عن تسليمها. فلما رأى نظام الملك والسلطان إصرار الخليفة على الاستقالة من ولايته شحنكية بغداد، سير سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد شحنة، وعزل السليماني عنها، اتباعاً لما أمر به الخليفة القائم بأمر الله، ولما ورد سعد الدولة خرج الناس لتلقيه، وجلس له الخليفة.

.ذكر تزويج ولي العهد بابنة السلطان:

في هذه السنة أرسل الإمام القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير، ومعه الخلع للسلطان ولولده ملكشاه، وكان السلطان قد أرسل يطلب من الخليفة أن يأذن في أن يجعل ولده ملكشاه ولي عهده، فأذن، وسيرت له الخلع مع عميد الدولة، وأمر عميد الدولة أن يخطب ابنة السلطان ألب أرسلان من سفري خاتون لولي العهد المقتدي بأمر الله، فلما حضر عند السلطان خطب ابنته، فأجيب إلى ذلك.
وعقد النكاح بظاهر نيسابور، وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح، ونظام الملك الوكيل من جهة السلطان في العقد، وكان النثار جواهر، وعاد عميد الدولة من عند السلطان إلى ملكشاه، وكان ببلاد فارس، فلقيه بأصبهان، فأفاض عليه الخلع، فلبسها وسار إلى والده، وعاد عميد الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذي الحجة.

.ذكر ولاية أبي الحسن بن عمار طرابلس:

في هذه السنة، في رجب، توفي القاضي أبو طالب بن عمار، قاضي طرابلس، وكان قد استولى عليها، واستبد بالأمر فيها، فلما توفي قام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن بن عمار، فضبط البلد أحسن ضبط، ولم يظهر لفقد عمه أثر لكفايته.

.ذكر ملك السلطان ألب أرسلان قلعة فضلون بفارس:

في هذه السنة سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل، وفيه صاحبه فضلون، وهو لا يعطي الطاعة، فنازله وحصره، ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع، فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضاً لعلو الحصن وارتفاعه، فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه، فعجب الناس من ذلك.
وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم، فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك، وتسلم الحصن، والتجأ فضلون إلى قلة القلعة، وهي أعلى موضع فيها، وفيه بناء مرتفع، فاحتمى فيها، فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا مالهم، فسمع فضلون الخبر، ففارق موضعه مستخفياً فيمن عنده من الجند، وسار ليمنع عن أهله، فاستقبلته طلائع نظام الملك، فخافهم فتفرق من معه، واختفى في نبات الأرض، فوقع فيه بعض العسكر، فأخذه أسيراً، وحمله إلى نظام الملك، فأخذه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطلقه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الصمد نب المهتدي بالله الخطيب بجامع المنصور، وكان قد أضر، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان إليه قضاء واسط، وخليفته عليها أبو محمد السمال. ثم دخلت:

.سنة خمس وستين وأربعمائة:

.ذكر قتل السلطان ألب أرسلان:

في أول هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد، وإنما غلب عليه ألب أرسلان ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، فعقد على جيحون جسراً وعبر عليه في نيف وعشرين يوماً، وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس، فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي، في سادس شهر ربيع الأول، وحمل إلى قرب سريره مع غلامين، فتقدم أن تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليها، فقال له يوسف: يا مخنث! مثلي يقتل هذه القتلة؟ فغضب السلطان ألب أرسلان، وأخذ القوس والنشاب، وقال للغلامين: خلياه! ورماه الس بسهم فأخطأه، ولم يكن يخطيء سهمه، فوثب يوسف يريده، والسلطان على سدة، فلما رأى يوسف يقصده قام عن السدة ونزل عنها، فعثر، فوقع على وجهه، فبرك عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، وكان سعد الدولة واقفاً، فجرحه يوسف أيضاً جراحات، ونهض الس فدخل إلى خيمة أخرى، وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبة على رأسه، فقتله وقطعه الأتراك.
وكان أهل سمرقند لما بلغهم عبور السلطان النهر، وما فعل عسكره بتلك البلاد لا سيما بخارى، اجتمعوا، وختموا ختمات، وسألوا الله أن يكفيهم أمره، فاستجاب لهم.
ولما جرح السلطان قال: ما من وجه قصدته، وعدو أردته، إلا استعنت بالله عليه، ولما كان أمس صعدت على تل، فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا أملك الدنيا، وما يقدر أحد علي، فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله تعالى، وأستقيله من ذلك الخاطر. فتوفي عاشر ربيع الأول من السنة، فحمل إلى مرو ودفن عند أبيه.
ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وبلغ من العمر أربعين سنة وشهوراً، وقيل كان مولده سنة عشرين وأربعمائة، وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة إلى أن قتل تسع سنين وستة أشهر وأياماً، ولما وصل خبر موته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة بن جهير للعزاء به في صحن السلام.

.ذكر نسب ألب أرسلان وبعض سيرته:

هو ألب أرسلان محمد بن داود بن جغري بك من ميكائيل بن سلجوق، وكان كريماً، عادلاً، عاقلاً، لا يسمع السعايات، واتسع ملكه جداً، ودان له العالم، وبحق قيل له سلطان العالم.
وكان رحيم القلب رفيقاً بالفقراء، كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله به عليه.
اجتاز يوماً بمرو على فقراء الخرائين، فبكى، وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله.
وكان يكثر الصدقة، فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه، عليهم الإدرارات والصلات، ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة، قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقاً بهم.
وكتب إليه بعض السعاة سعاية في نظام الملك وزيره، وذكر ما له في ممالكه من الرسوم والأموال، وتركت على مصلاه، فأخذها فقرأها، ثم سلمها إلى نظام الملك وقال له: خذ هذا الكتاب، فإن صدقوا في الذي كتبوه فهذب أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم يشتغلون به عن السعاية بالناس.
وهذه حالة لا يذكر عن أحد من الملوك أحسن منها.
وكان كثيراً ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة، ولما اشتهر بين الملوك حسن سيرته، ومحافظته على عهوده، أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع، وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقصى الشام.
وكان شديد العناية بكف الجند عن أموال الرعية، بلغه أن بعض خواص مماليكه سلب من بعض الرستاقية إزاراً، فأخذ المملوك وصلبه، فارتدع الناس عن التعرض إلى مال غيرهم.
ومناقبه كثيرة لا يليق بهذا الكتاب أكثر من هذا القدر منها. وخلف ألب أرسلان من الأولاد: ملكشاه، وهو صار السلطان بعده، وإياز، وتكش، وبوري برش، وتتش، وأرسلان أرغو، وسارة، وعائشة، وبنتاً أخرى.

.ذكر ملك السلطان ملكشاه:

لما جرح السلطان ألب أرسلان أوصى لابنه ملكشاه، وكان معه، وأمر أن يحلف له العسكر، فحلفوا جميعهم، وكان المتولي للأمر في ذلك نظام الملك، وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له، فخطب له على منابرها، وأوصى ألب أرسلان ابنه ملكشاه أيضاً أن يعطي أخاه قاروت بك بن داود أعمال فارس وكرمان، وشيئاً عينه من المال، وأن يزوج بزوجته، وكان قاروت بك بكرمان، وأوصى أن يعطى ابنه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وقال: كل من لم يرض بما أوصيت له فقاتلوه، واستعينوا بما جعلته له على حربه.
وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر، فعبر العسكر الذي قطع النهر في نيف وعشرين يوماً في ثلاثة أيام، وقام بوزارة ملكشاه نظام الملك، وزاد الأجناد في معايشهم سبع مائة ألف دينار، وعادوا إلى خراسان، وقصدوا نيسابور، وراسل ملكشاه جماعة الملوك أصحاب الأطراف يدعوهم إلى الخطبة له والانقياد إليه، وأقام إياز أرسلان ببلخ وسار السلطان ملكشاه في عساكره من نيسابور إلى الري.

.ذكر ملك صاحب سمرقند مدينة ترمذ:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك التكين صاحب سمرقند مدينة ترمذ.
وسبب ذلك أنه لما بلغه وفاة ألب أرسلان، وعود ابنه ملكشاه عن خراسان، طمع في البلاد المجاورة له، فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها، ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها إلى سمرقند.
وكان إياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا إلى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها، وورد إليها، فنهب عسكره شيئاً من أموالل الناس، وعاد إلى ترمذ، فثار أوباش بلخ بجماعة من أصحابه فقتلوهم، فعاد إليهم وأمر بإحراق المدينة، فخرج إليه أعيان أهلها وسألوه الصفح، واعتذروا، فعفا عنهم، لكنه أخذ أموال التجار فغنم شيئاً عظيماً.
فلما وصل الخبر إلى إياز عاد من الجوزجان إلى بلخ، فوصل غرة جمادى الأولى، فأطاعه أهلها، وسار عنها إلى ترمذ في عشرة آلاف فارس في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، فلقيهم عسكر التكين، فانهزم إياز، فغرق من عسكره في جيحون أكثرهم، وقتل كثير منهم، ولم ينج إلا القليل.

.ذكر قصد صاحب غزنة سكلكند:

وفي هذه السنة أيضاً، في جمادى الأولى، وردت طائفة كثيرة من عسكر غزنة إلى سكلكند، وبها عثمان عم السلطان ملكشاه، ويلقب بأمير الأمراء، فأخذوه أسيراً، وعادوا به إلى غزنة مع خزائنه وحشمه، فسمع الأمير كمشتين بلكابك، وهو من أكابر الأمراء، فتبع آثارهم، وكان معه أنوشتكين جد ملوك خوارزم في زماننا، فنهبوا مدينة سكلكند.

.ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وعمه قاورت بك:

لما بلغ قاورت بك، وهو بكرمان، وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالباً للري يريد الاستيلاء على الممالك، فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك، وسارا منها إليه، فالتقوا بالقرب من همذان في شعبان، وكان العسكر يميلون إلى قاورت بك، فحملت ميسرة قاورت على ميمنة ملكشاه، فهزموها، وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش، وبهاء الدولة منصور بن دبيس بن مزيد، وهما مع ملكشاه، ومن معهما من العرب والأكراد، على ميمنة قاورت بك فهزموها، وتمت الهزيمة على أصحاب قاورت بك، ومضى المنهزمون من أصحاب السلطان ملكشاه إلى حلل شرف الدولة، وبهاء الدولة، فنهبوها غيظاً منهم، حيث هزموا عسكر قاورت بك، ونهبوا أيضاً ما كان لنقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي رسول الخليفة.
وجاء رجل سوادي إلى السلطان ملكشاه، فأخبره أن عمه قاورت بك في بعض القرى، فأرسل من أخذه وأحضره، فأمر سعد الدولة كوهرائين فخنقه، وأقرر كرمان بيد أولاده، وسير إليهم الخلع، وأقطع العرب والأكراد إقطاعات كثيرة لما فعلوه في الوقعة.
وكان السبب في حضور شرف الدولة، وبهاء الدولة، عند ملكشاه، أن السلطان ألب أرسلان كان ساخطاً على شرف الدولة، فأرسل الخليفة نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي إلى شرف الدولة بالموصل، فأخذه وسار به إلى ألب أرسلان ليشفع فيه عند الخليفة، فلما بلغ الزاب وقف على ملطفات كتبها وزيره أبو جابر بن صقلاب، فأخذه شرف الدولة فغرقه، وسار مع طراد، فبلغهما الخبر بوفاة ألب أرسلان، ومسير ابنه ملكشاه، فتمما إليه.
وأما بهاء الدولة فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان، فحضر الحرب بهذا السبب.

.ذكر تفويض الأمور إلى نظام الملك:

ثم إن عسكر ملكشاه بسطوا ومدوا أيديهم في أموال الرعية، وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، فنال الرعية أذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، فبين له ما في هذا الفعل من الوهن، وخراب البلاد، وذهاب السياسة، فقال له: افعل في هذا ما تراه مصلحة! فقال له نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك.
فقال السلطان: قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد، وحلف له وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، من جملته طوس مدينة نظام الملك، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها: أتابك، ومعناه الأمير الوالد، فظهر من كفايته، وشجاعته، وحسن سيرته ما هو مشهور، فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به، فوقف يكلمها وتكلمه، فدفعها بعض حجابه، فأنكر ذلك عليه وقال: إنما استخدمتك لأمثال هذه، فإن الأمراء والأعيان لا حاجة بهم إليك، ثم صرفه عن حجابته.

.ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان:

في هذه السنة قتل ناصر الدولة أبو علي الحسن بن حمدان، وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان، بمصر، وكان قد تقدم فيها تقدماً عظيماً.
ونذكر هاهنا الأسباب الموجبة لقتله، فإنها تتبع بعضها بعضاً، وفي حروب وتجارب، وكان أول ذلك انحلال أمر الخلافة، وفساد أحوال المستنصر بالله العلوي، صاحبها، وسببه أن والدته كانت غالبة على أمره، وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التستري، اليهودي، وصار وزيراً لها، فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحي، فولته الوزارة، واتفقا مدة، ثم صار الفلاحي ينفرد بالتدبير، فوقع بينهما وحشة، فخافه الفلاحي أن يفسد أمره مع أم المستنصر، فاصطنع الغلمان الأتراك، واستمالهم، وزاد في أرزاقهم، فلما وثق بهم وضعهم على قتل اليهودي، فقتلوه، فعظم الأمر على أم المستنصر، وأغرت به ولدها، فقبض عليه، وأرسلت من قتله تلك الليلة، وكان بينهما في القتل تسعة أشهر.
ووزر بعده أبو البركات حسن بن محمد، فوضعه على الغلمان الأتراك فأفسد أحوالهم، وشرع يشتري العبيد للمستنصر، واستكثر منهم، فوضعته أم المستنصر ليغري العبيد المجردين بالأتراك، فخاف عاقبة ذلك، وعلم أنه يورث شراً وفساداً، فلم يفعل، فتنكرت له، وعزلته عن الوزارة.
وولي بعده الوزارة أبو محمد اليازوري من قرية من قرى الرملة اسمها يازور، فأمرته أيضاً بذلك، فلم يفعل، وأصلح الأمور إلى أن قتل.
ووزر بعده أبو عبد الله الحسين بن البابلي، فأمرته بما أمرت به غيره من الوزراء من إغراء العبيد بالأتراك، ففعل، فتغيرت نياتهم.
ثم إن المستنصر ركب ليشيع الحجاج، فأجرى بعض الأتراك فرسه، فوصل به إلى جماعة العبيد المحدثين، وكانوا يحيطون بالمستنصر، فضربه أحدهم فجرحه، فعظم ذلك على الأتراك ونشبت بينهم الحرب، ثم اصطلحوا على تسليم الجارح إليهم، واستحكمت العداوة، فقال الوزير للعبيد: خذوا حذركم، فاجتمعوا في محلتهم.
وعرف الأتراك ذلك، فاجتمعوا إلى مقدميهم، وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان، وهو أكبر قائد بمصر، وشكوا إليه، واستمالوا المصامدة، وكتامة، وتعاهدوا، وتعاقدوا، فقوي الأتراك، وضعف العبيد المحدثون، فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك، فانضاف إليهم خلق كثير يزيدون على خمسين ألف فارس وراجل، فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر، فأعاد الجواب أنه لا علم له بما فعل العبيد، وأنه لا حقيقة له، فظنوا قوله حيلة عليهم.
ثم قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم، فأجفل الأتراك، وكتامة، والمصامدة، وكانت عدتهم ستة آلاف، فالتقوا بموضع يعرف بكوم الريش، واقتتلوا، فانهزم الأتراك ومن معهم إلى القاهرة، وكان بعضهم قد كمن في خمسمائة فارس، فلما انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومن معهم، وحملوا عليهم حملة منكرة، وضربت البوقات، فارتاع العبيد، وظنوها مكيدة من المستنصر، وأنه ركب في باقي العسكر، فانهزموا، وعاد عليهم الأتراك وحكموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً وكان يوماً مشهوداً.
وقويت نفوس الأتراك، وعرفوا حسن رأي المستنصر فيهم، وتجمعوا، وحشدوا، فتضاعفت عدتهم، وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم، فخلت الخزائن، واضطربت الأمور، وتجمع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، فاجتمعوا مع العبيد، فصاروا خمسة عشر ألف فارس وراجل، وساروا إلى الجيزة، فخرج عليهم الأتراك ومن معهم، واقتتلوا في الماء عدة أيام، ثم عبر الأتراك النيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان، فاقتتلوا، فانهزم العبيد إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين.
ثم إن العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارس وراجل، فقلق الأتراك لذلك، فحضر مقدموهم دار المستنصر لشكوى حالهم، فأمرت أم المستنصر من عندها من العبيد بالهجوم على المقدمين والفتك بهم، ففعلوا ذلك، وسمع ناصر الدولة الخبر، فهرب إلى ظاهر البلد، واجتمع الأتراك إليه، ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد، ومن تبعهم من مصر، والقاهرة، وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاماً، حتى ينفصل الحال بينهم، فبقيت الحرب ثلاثة أيام، ثم ظفر بهم ناصر الدولة، وأكثر القتل فيهم، ومن سلم هرب، وزالت دولتهم من القاهرة.
وكان بالإسكندرية جماعة كثيرة من العبيد، فلما كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان، فأمنوا وأخذت منهم الإسكندرية، وبقي العبيد الذين بالصعيد.
فلما خلت الدولة من الأتراك طمعوا في المستنصر، وقل ناموسه عندهم، وطلبوا الأموال، فخلت الخزائن، فلم يبق فيها شيء البتة، واختل ارتفاع الأعمال، وهم يطالبون، واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده، فطلب ناصر الدولة العروض، فأخرجت إليهم، وقومت بالثمن البخس، وصرفت إلى الجند، قيل إن واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف، فصار الآن في الشهر أربعمائة ألف دينار.
وأما العبيد فإنهم أفسدوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، فسار إليهم ناصر الدولة في عسكر كثير، فمضى العبيد من بين يديه إلى الصعيد الأعلى، فأدركهم، فقاتلهم، وقاتلوه، فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر، واجتمع إليه من سلم من أصحابه، وشغبوا على المستنصر، واتهموه بتقوية العبيد والميل إليهم. ثم جهزوا جيشاً وسيروه إلى طائفة من العبيد بالصعيد، وقاتلوهم، فقتلت تلك الطائفة من العبيد، فوهن الباقون، وزالت دولتهم.
وعظم أمر ناصر الدولة، وقويت شوكته، وتفرد بالأمر دون الأتراك، فامتنعوا من ذلك، وعظم عليهم، وفسدت نياتهم له، فشكوا ذلك إلى الوزير، وقالوا: كلما خرج من الخليفة مال أخذ أكثره له ولحاشيته، ولا يصل إلينا منه إلا القليل. فقال الوزير: إنما وصل إلى هذا وغيره بكم، فلو فارقتموه لم يتم له أمر. فاتفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة، وإخراجه من مصر، فاجتمعوا، وشكوا إلى المستنصر، وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة، فأرسل إليه يأمره بالخروج، ويتهدده إن لم يفعل، فخرج من القاهرة إلى الجيزة، ونهبت داره ودور حواشيه وأصحابه.
فلما كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفياً إلى القائد المعروف بتاج الملوك شاذي، فقبل رجله، وقال: اصطنعني! فقال: أفعل، فحالفه على قتل مقدم من الأتراك اسمه الدكز، والوزير الخطير، وال ناصر الدولة لشاذي: تركب في أصحابك، وتسير بين القصرين، فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما.
وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة. وفعل شاذي ما أمره، فركب الدكز إلى القصر، فرأى شاذي في جمعه، فأنكره، وأسرع فدخل القصر، ففاته، ثم أقبل الوزير في موكبه، فقتله شاذي، وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب، فركب إلى باب القاهرة، فقال الدكز للمستنصر: إن لم تركب، وإلا هلكت أنت ونحن. فركب، ولبس سلاحه، وتبعه خلق عظيم من العامة والجند، واصطفوا للقتال، فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم، وقتل من أصحابه خلق كثير، ومضى منهزماً على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعه فل أصحابه، فوصل إلى بني سنبس، فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم.
وتجهزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدمين أن يفوز بالظفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة.
وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم، وأسر مقدمهم، وعظم أمره، ونهب الريف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر براً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتى إن أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلهم في ليلة واحدة.
واشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفاً بألف دينار، فاستبعد ذلك، فقيل: إنها باعت عروضاً قيمتها ألف دينار بثلاثمائة دينار، واشترت بها حنطة، وحملها الحمال على ظهره، فنهبت الحنطة في الطريق، فنهبت هي مع الناس، فكان الذي حصل لها ما عملته رغيفاً واحداً.
وقطع ناصر الدولة الطريق براً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر أصحاب المستنصر، وتفرق كثير منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحد حكم.
فلما دخل تاج الملوك إلى القاهرة تغير عن القاعدة، واستبد بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدمي الأتراك، فخرجوا إليه إلا أقلهم، فقبض عليهم كلهم، ونهب ناحيتي مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسير إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندرية ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الريف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خلعاً ليخطب له بمصر.
واضمحل أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه أيضاً يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلما أدى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟ فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كل يوم مائة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذل السلطان وأصحابه.
وكان الذي حمله على ذلك أنه كان يظهر التسنن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أم المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرق عن المستنصر أولاده وكثير من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثير منهم جوعاً.
وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن. وانحط السعر سنة خمس وستين، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرق عنه عامة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنني أريد أن أوليك عمل كذا، فيسير إليه، فلا يمكنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب للخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، وعلم أنه متى ما تم ما أراد تمكن منه ومن أصحابه، فأطلع على ذلك غيره من قواد الأتراك، فاتفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوته، وعدم عدوه، فتواعدوا ليلة على ذلك، فلما كان سحر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تعرف بمنازل العز، وهي على النيل، فدخلوا، من غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء لأنه كان آمناً منهم، فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبهم، وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضربوه حتى قتلوه، وأخذوا رأسه.
ومضى رجل منهم، يعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب: استأذن لي على فخر العرب، وقل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له، فأذن له وقال: لعله قد دهمه أمر. فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه، وضربه بالسيف على كتفه، فسقط على الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمة وافرة، وأخذ جارية له أردفها خلفه، وتوجه إلى القاهرة، وقتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانية بمصر بالكلية.
فلما كان سنة ست وستين وأربعمائة ولي بمصر بدر الجمالي، أمير الجيوش، وقتل الدكز والوزير ابن كدينة، وجماعة من المسلحية، وتمكن من الدولة إلى أن مات، وولي بعده ابنه الأفضل، وسيرد ذكرهم إن شاء الله تعالى.